العشائر في سوريا: عمق اجتماعي ودور سياسي لا يمكن تجاهله بقلم الشيخ حسين علي المعمو
العشائر في سوريا: عمق اجتماعي ودور سياسي لا يمكن تجاهله
بقلم الشيخ حسين علي المعمو
مؤتمر العشائر والقبائل في اسطنبول
الخميس 31 كانون الأول/ديسمبر 2020
في خضم التحولات العاصفة التي شهدتها سوريا منذ عام 2011، عادت البُنى التقليدية إلى الواجهة بقوة، وعلى رأسها البنية العشائرية، التي أثبتت مرونتها وعمقها المتجذر في المجتمع السوري. لقد كشفت الأزمة السورية عن هشاشة بعض المؤسسات الرسمية، ما دفع الكثير من السوريين للعودة إلى انتماءاتهم الأولية—الدينية، والمذهبية، والعرقية، والعشائرية—بحثاً عن شعور بالانتماء والأمان. ورغم الجهود التي بُذلت على مدى العقود الماضية لتهميش هذه الهويات، إلا أن العشائر بقيت رقماً صعباً في المعادلة السورية.
الامتداد الجغرافي والوزن التاريخي
الوجود العشائري في سوريا لا يقتصر على منطقة شرق الفرات كما قد يُشاع، بل يمتد ليشمل محافظات مثل حلب، إدلب، حماة، حمص، ودرعا، وغيرها. تاريخياً، كان للعشائر دور فاعل في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وتحديداً في محافظة الرقة، التي أصبحت لفترة عاصمة لمقاومة القوات الفرنسية بين عامي 1920 و1922. وقد شارك أبناء العشائر بفعالية في الثورات الوطنية التي كانت في أغلبها ذات طابع عشائري أو ريفي، ما دفع الاحتلال الفرنسي لمحاولة شراء ولاء الشيوخ بالمال أو الأراضي، أو قمعهم بالنفي والسجن.
سياسة الإقصاء والاحتواء: من الاستقلال إلى عهد الأسد
عقب الاستقلال، وخاصة في ظل الحكومات القومية، تم النظر إلى العشائر باعتبارها كيانات تقليدية تُعيق مشروع الدولة الحديثة. صدرت قوانين مثل قانون الإصلاح الزراعي الذي صادر أراضي الشيوخ، كما أُلغي قانون العشائر الذي كان الفرنسيون قد أصدرونه عام 1940، مما قلّص من سلطتهم. ومع وصول حافظ الأسد إلى الحكم، تم احتواء العشائر من خلال تعيين الشيوخ عبر وزارة الداخلية، وإقصاء الزعامات الحقيقية مقابل إبراز شخصيات موالية للنظام، وتحويل بعضهم إلى أدوات أمنية مثل "حرس البادية".
الثورة: انقسام العشيرة وتعدد الولاءات
مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، واجهت العشائر تحدياً وجودياً، حيث انقسمت على نفسها بشكل غير مسبوق. ففي كل عشيرة تقريباً ظهر شيخ موالٍ للنظام وآخر للمعارضة وثالث لقوات سوريا الديمقراطية (قسد). وتفاقم هذا الانقسام ليطال العائلة الواحدة داخل العشيرة، ما أدى إلى تغييب مثقفي العشائر عن مراكز اتخاذ القرار، وأدى إلى ارتباك في تمثيل العشائر في المحافل السياسية.
النظام كان الأسبق إلى التحرك، فاستدعى بعض الشيوخ إلى مؤتمرات رمزية، وعيّن شخصيات عشائرية في مناصب عليا كوزير الدفاع فهد جاسم الفريج. أما المعارضة، فقد تأخرت في احتواء زعامات العشائر، واكتفت بتمثيل صوري لها. وفي المقابل، عملت قسد على إنشاء مجالس عشائرية خاصة بها، ضمن محاولات كسب الشرعية في مناطق شرق الفرات، التي يقطنها العرب بنسبة تقارب 80%.
العشائر كأداة جيوسياسية
لم يكن الاهتمام بالعشائر مقتصراً على القوى السورية فقط، بل دخلت قوى إقليمية ودولية مثل دول الخليج وروسيا وإيران على خط استقطاب العشائر العربية، لا سيما في المناطق الشرقية. وشهدنا ولادة فصائل مسلحة ذات خلفيات عشائرية، إلا أنها لم تنجح في حشد ولاء عشيرة بأكملها، بسبب ضعف الانضباط الداخلي والانقسامات في القيادة.
وقد أدى تغيّر بعض الشيوخ لمواقفهم بشكل متكرر إلى فقدانهم لهيبتهم التقليدية، فيما بقيت الشخصيات التي دعمت الثورة في الغالب من "الصف الثاني"، أي من وجهاء طامحين للمشيخة، أو من غير الراضين عن زعمائهم. أما جيل الشباب، فقد اتخذ مساراته المستقلة بعيداً عن سلطة الشيوخ التقليديين.
دور العشائر في رسم سياسة الدول
تاريخياً، لم تكن العشائر مجرد مكونات اجتماعية، بل لعبت أدواراً محورية في صياغة ملامح الدولة والسياسات العامة، سواء في سوريا أو في العالم العربي. ففي العراق، شكّلت العشائر عنصر توازن خلال الاحتلال الأميركي وبعده، بينما لعبت عشائر الخليج دوراً أساسياً في تكوين النظم السياسية الملكية المعاصرة. وتمكنت بعض الدول من توظيف البُنى العشائرية في إطار الدولة الحديثة، عبر ما يُعرف بـ"التحالف بين العرش والعشيرة"، كما في الأردن والمغرب.
وفي الحالة السورية، لا يزال بالإمكان إعادة دمج العشائر ضمن مشروع وطني جامع، شريطة أن يتم احترام استقلاليتها المجتمعية وإشراك أبنائها المثقفين في الحياة السياسية. فالعشائر تملك ما لا تملكه القوى السياسية التقليدية: الامتداد الاجتماعي، والانضباط الذاتي، والقدرة على تهدئة النزاعات المحلية دون الحاجة إلى سلطة مركزية قوية.
الخاتمة: العشيرة كرافعة لا عبء
ما حدث في سوريا لم يكن مجرد نزاع سياسي، بل كان عاصفة قلبت البُنى الاجتماعية رأساً على عقب. ومع أن العشائر كانت من أكثر المتضررين، فإنها لم تفقد أهميتها. بل ربما تكون إحدى بوابات الخروج من المأزق السوري، إذا ما جرى إعادة تفعيل دورها كضامن للاستقرار المجتمعي ورافعة للمشروع الوطني، بدلاً من التعامل معها كأدوات صراع بين القوى المتنازعة.
العشيرة لم تكن يوماً نقيضاً للدولة، بل ركيزة من ركائزها في حال تم التعامل معها بواقعية وعدالة. والرهان على تهميشها، كما أثبت التاريخ، رهان خاسر.