العشائر في سوريا: دراسة تحليلية في عمقها الاجتماعي وأثرها السياسي بقلم حسين المعمو
العشائر في سوريا: دراسة تحليلية في عمقها الاجتماعي وأثرها السياسي
بقلم: الشيخ حسين علي المعمو
تاريخ النشر: 31 كانون الأول/ديسمبر 2020
مقدمة
شكلت العشائر في سوريا ركيزة من ركائز البنية الاجتماعية والسياسية منذ ما قبل تشكل الدولة الحديثة. ورغم محاولات التهميش الممنهج الذي طالها عبر عقود، عادت العشائر لتلعب أدواراً محورية في خضم الأزمة السورية، حيث برزت كمكون فاعل في المعادلة الوطنية، وكمصدر بديل للشرعية الاجتماعية في ظل تفكك مؤسسات الدولة، مما يفرض قراءة معمقة لدورها المتجدد وتفاعلاتها المعقدة مع القوى الفاعلة محلياً ودولياً.
أولاً: البنية العشائرية في سوريا – الامتداد التاريخي والجغرافي
العشائر السورية ليست محصورة جغرافياً في منطقة معينة، بل تنتشر في الشرق (الرقة، دير الزور، الحسكة)، كما في الوسط (حمص، حماة)، وفي الشمال (حلب، إدلب)، وحتى الجنوب (درعا، السويداء). هذا الامتداد يعبّر عن تجذّرها وتاريخها الطويل الذي سبق تأسيس الدولة السورية.
خلال الحقبة الاستعمارية، لعبت العشائر أدواراً حاسمة في مقاومة الانتداب الفرنسي. وكانت الرقة، على سبيل المثال، مركزاً لمقاومة بدوية عربية في الفترة ما بين 1920-1922. وشكلت الثورات ضد الاحتلال الفرنسي في معظمها حركات عشائرية الطابع، ما استدعى محاولة فرنسية لترويض العشائر عبر الامتيازات أو القمع.
ثانياً: من التهميش إلى الاستيعاب: سياسات الدولة تجاه العشائر
1. عهد ما بعد الاستقلال
اتخذت الحكومات السورية المتعاقبة، لا سيما ذات الطابع القومي، موقفاً سلبياً من العشائر، فعدّتها معرقلاً للتحديث. وجرى تقييد سلطاتها عبر إلغاء "قانون العشائر" (1958) ومصادرة أراضيها بموجب قانون الإصلاح الزراعي، مما قلّص من قوتها الاقتصادية والسياسية.
2. عهد حافظ الأسد
اعتمد النظام سياسة الاستيعاب والاحتواء، حيث أسندت وزارة الداخلية مهمة تعيين شيوخ العشائر، ما نتج عنه إبعاد الزعامات التاريخية، وتعيين شيوخ جدد موالين للنظام. كما تم استخدام بعضهم ضمن تشكيلات أمنية مثل "حرس البادية"، بينما روّج الإعلام الرسمي لخطاب معادٍ للنظام العشائري باعتباره من مخلّفات الجهل والتخلف.
ثالثاً: الثورة السورية وانقسام العشائر
مع اندلاع الثورة عام 2011، لم تبقَ العشائر على الحياد. بل تعرضت لتصدعات عميقة داخل بنيتها، حيث انقسمت الزعامات إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية: موالون للنظام، مؤيدون للمعارضة، وآخرون منضوون تحت سلطة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد). ووصل الانقسام إلى داخل العائلة الواحدة، وأدى إلى تراجع دور المثقفين العشائريين وإقصائهم عن دوائر القرار.
بينما سارع النظام إلى استقطاب بعض الزعامات بعقد مؤتمرات (أولها عام 2012)، وتعيين شخصيات عشائرية في مواقع حساسة، تأخرت المعارضة كثيراً في بناء جسور الثقة مع العشائر، واكتفت بتمثيل صوري لها. بالمقابل، عملت قسد على تشكيل "مجلس صلح العشائر" شرق الفرات، في محاولة لإضفاء الشرعية على سلطتها في المنطقة ذات الغالبية العربية.
رابعاً: البعد الإقليمي والدولي في توظيف العشائر
تزامناً مع تفكك الدولة المركزية، دخلت أطراف إقليمية ودولية (مثل دول الخليج، روسيا، وإيران) على خط استقطاب العشائر، لا سيما في الشرق السوري الغني بالموارد. ظهرت فصائل عسكرية ذات خلفية عشائرية، لكنها لم تنجح في تشكيل قاعدة عشائرية موحدة، بسبب عدم قدرتها على فرض موقف موحد داخل العشيرة، وضعف شرعية الشيوخ المتقلبين في مواقفهم.
خامساً: العشائر ودورها في رسم سياسات الدول
إن العشيرة ليست مجرد مكون اجتماعي بل هي وحدة سياسية مرنة يمكن توظيفها ضمن أنظمة الحكم، كما هو الحال في الأردن أو العراق أو دول الخليج. فالعشائر تؤمن بنية تنظيمية شبه مستقلة، ولديها قنوات لحل النزاعات، وآليات للتجنيد والولاء، مما يجعلها أداة استراتيجية هامة في يد الدولة، لا سيما في المناطق الحدودية أو الريفية البعيدة عن المركز.
في سوريا، يمكن استثمار العشائر كقوى دعم سياسي وتنموي، إذا ما تم إشراكها بطرق عادلة وشاملة، بعيداً عن التوظيف السلطوي أو الإقصاء الإيديولوجي.
سادساً: تحولات الولاء وتبدل الزعامة
تغيرت خارطة الولاءات العشائرية عدة مرات منذ 2011، وانخرط أبناء الطبقة الوسطى من العشائر في صفوف المعارضة، بينما بقيت غالبية الزعامات التقليدية في صف النظام حمايةً لمصالحها ومكانتها. ومع تحسّن وضع النظام عسكرياً بعد عام 2016، عاد بعض الزعماء المعارضين وأجروا مصالحات، مدفوعين برغبة في استعادة النفوذ الاجتماعي، الذي لم تمنحهم إياه المعارضة.
سابعاً: العشائر كفرصة لتقليل الانقسام وتعزيز الانسجام المجتمعي
رغم انقسامها، تبقى العشائر أحد الأطر القليلة القادرة على لعب دور في تقليل التشرذم المجتمعي في سوريا. فهي تمتلك أدوات للتسوية، وضوابط اجتماعية، يمكن أن تكون نواة لإعادة بناء العقد الاجتماعي، في ظل غياب مؤسسات الدولة، خاصة في المناطق الريفية والحدودية.
وفي الوقت الذي مزقت فيه الثورة العائلة السورية الواحدة، تطالب بعض الأطراف العشائر باتخاذ موقف موحد، وهو أمر غير واقعي في ظل التعددية السياسية والطائفية والاجتماعية، لكن يمكن للعشيرة أن تساهم في بناء "أرضية مشتركة" على الأقل.
خاتمة
لم تكن العشائر السورية يوماً كيانات هامشية، بل كانت وما تزال فاعلاً اجتماعياً وسياسياً مؤثراً. ورغم ما أصابها من تفكك وانقسام، فإنها لم تفقد قدرتها على التأثير. بل يمكن أن تتحول إلى شريك أساسي في أي مشروع وطني حقيقي، إذا ما أُعيد النظر في طريقة التعامل معها، بعيداً عن الاستغلال أو الإقصاء.
إن تجاهل العشائر، أو حصرها في رموز موالية، لا يخدم مشروع الدولة، بل يفتح الباب أمام المزيد من الانقسام. وفي ظل غياب البدائل المجتمعية الجامعة، تبقى العشيرة خياراً واقعياً لإعادة التوازن والاستقرار في المجتمع السوري المنهك.